الدين العام: العبرة بالإستخدام وليس الرقم

نشرت في تشرين الثاني، 2015

عند الحديث عن الدين العام، يلجأ الجميع في المجالس ووسائل الإعلام المختلفة الى الحديث عن الرقم الإجمالي للدين العام والذي وصل (حتى أيلول 2015) الى 90% من الناتج المحلي الإجمالي أو ما يعادل حوالي 24 مليار دينار. يذكر أن هذا الرقم يشمل الدين الداخلي والخارجي للحكومة المركزية والمؤسسات المستقلة دون أن يطرح منه قيمة الودائع الحكومية.

تناولت التعليقات والأخبار حول رقم الدين العام الذي بلغ 24 مليار دينار أو 90% من الناتج المحلي الإجمالي، والذي صدر في نشرة وزارة المالية الأخيرة، التحوط والخوف من كبر هذا الرقم وأثره على الأجيال المستقبلية من خلال كلفة سداده. لكن تغفل هذه الأخبار عن نقل جانب محوري من ملف الدين العام ألا وهو سبل إنفاقه أو إستخدامه.

أصدر الأردن مؤخراً، عن طريق وزارة المالية، سندات اليوروبوند بقيمة 500 مليون دينار والتي أصدرت لسداد سندات اليوروبوند والتي تم إصدارها في عام 2010 بقيمة 750 مليون دينار. يدل هذا الفعل على أن خطة سداد هذا الدين، والتي وصفها وزير مالية سابق بالخطة "الموضوعة"، تعتمد على إصدار دين جديد لسداد الديون القديمة وهذا يعتبر مؤشر خطير يتفوّق على "خطورة" الرقم الإجمالي.

إن الهدف من الإقتراض بشكل عام هو إستثمار الأموال المقترضة في مشاريع وبرامج تفوق في مردودها كلفة الإقتراض من أجل سداد القرض بشكل ميسّر عند موعد إستحقاقه. إن إصدار سندات جديدة لتسديد سندات قديمة تدل على أنه لم تكن هنالك خطة لإستثمار هذه الأموال في مشاريع تدر على الدولة عوائد تفوق كلفة الإقتراض. إن اللجوء الى إقتراض أموال جديدة لتسديد الديون المستحقة لا يمكن الإعتماد عليها في المدى الطويل. لذلك يجب علينا النظر بحصافة الى سبل إستخدام الأموال المقترضة.

إن العبرة في الدين العام هو كيفية إستخدامه وليس في الرقم فقط. إن حجم الدين العام، والبالغ 90% من الناتج المحلي الإجمالي، لا يعتبر كبيراً قياساً لدول أخرى. لكن الخطورة تكمن أن مصدر هذا الدين هو الإختلال الهيكلي في بند النفقات في الموازنة العامة للدولة.

عندما يقترض الأردن أموالاً، سواءً من مصادر داخلية أو خارجية، فإنها تعزى بشكل رئيسي للعجز في الموازنة العامة للدولة (أنا لا أتحدث هنا عن ديون الشركة الوطنية للكهرباء). بشكل مبسط، يتأتى العجز من تجاوز النفقات الإجمالية للإيرادات الإجمالية. لكن العبرة هنا في هيكلية النفقات الإجمالية والتي تقسم الى نفقات جارية ونفقات رأسمالية.

تعتبر النفقات الجارية (مثل الرواتب ونفقات استخدام السلع والخدمات) نفقات لا تدر عوائد مالية تذكر للحكومة المركزية. لكن النفقات الرأسمالية (مثل الإستثمار في البنية التحتية) تعرف بعوائدها المالية المجزية للدولة. عند النظر الى أحدث البيانات الصادرة عن وزارة المالية، نجد أن لكل دينار ينفق على مشاريع رأسمالية يقابلها 6 دنانير تقريباً تنفق في بنود تصنّف تحت بند النفقات الجارية!

إن هذا الإختلال يضع الأردن في مأزق على الأمد الطويل من خلال إزدياد كلفة سداد الدين العام والتي سيتحملها الجيل الشاب القادم وليس الجيل الحالي. إن إستخدام الدين العام، أو الإقتراض، لتمويل النفقات الجارية لا يرّد للدولة عوائد مالية تذكر تساهم في سداد كلفة هذا الدين. لكن إستخدام الدين العام لتمويل مشاريع رأسمالية يوفر للحكومة عوائد مالية تتمثل في زيادة في الإيرادات الضريبية (التي تتأتى من زيادة النشاط الإقتصادي المرتبطة إيجابياً مع قيمة النفقات الرأسمالية) وتوفير في النفقات الجارية. يكمن وقتئذ إستخدام تلك العوائد لسداد ذلك الدين ولن نكون مضطرين لإقتراض أموال جديدة لسداد قروض قديمة!

تفاوض الحكومة حالياً صندوق النقد الدولي على برنامج إصلاح مالي ذو طابع طويل المدى نسبياً مقارنةً مع قصر البرنامج السابق (برنامج الإستعداد الإئتماني الذي أنتهى في منتصف العام الجاري). حبذا لو تم النص في هذا البرنامج الجديد على ضرورة إجراء إصلاحات هيكلية وجذرية على هيكلية النفقات في الموازنة العامة للدولة وليس التركيز فقط على جانب الإيرادات.

لقد تلقى برنامج الصندوق السابق إنتقادات عديدة نتيجة للإجراءات الحكومية العديدة التي هدفت بشكل رئيسي الى زيادة الإيرادات وضبط النفقات الجارية بشكل ثانوني (وليس إعادة هيكلتها). لذلك فإن إعادة النظر في هيكلية نفقات الحكومة المركزية تعتبر من الأولويات القصوى وخصوصاً بإتجاه إزدياد النفقات الرأسمالية على حساب النفقات الجارية. من شأن ذلك تحقيق إيرادات إضافية للحكومة دون اللجوء الى زيادة النسب الضريبية أو زيادة الرسوم أو أي إجراءات أخرى غير إعتيادية هدفها زيادة الإيرادات. ذلك يساهم في غلق عجز الموازنة يضمن إستخدام الإقتراض بشكل سليم بشكل يضمن تسديد هذه القروض بشكل ميسر عند موعد إستحقاقها وضبط حجم الدين العام نسبة الى الناتج المحلي الإجمالي.

إن الأردن يحتاج بشكل ماسٍ الى نمو حقيقي ومستدام من أجل رفع المستوى المعيشي للأردنيين، رفع أجورهم، وخفض أرقام البطالة. تدل بعض الدراسات على أن الأردن يحتاج الى تحقيق معدل نمو سنوي 7% على مدى العشر سنوات القادمة لتخفيض نسب البطالة الى حدود 8-9% في 2025. إن تحقيق مثل هذا النمو يعني أنه يتوجب على الأردن إنتاج قيمة إقتصادية تراكمية في العقد القادم أكبر من كامل إنتاج الأردن الإقتصادي التراكمي منذ إستقلال المملكة!

إن تحقيق ذلك ليس بالأمر الهين، لكنه ممكن عن طريق تطبيق نهج جديد للسياسة الإقتصادية تبدأ في الإعتماد على ضخ الأموال في الإقتصاد عن طريق الإستثمار في النفقات الرأسمالية بالشراكة مع القطاع الخاص وإعتماد سياسات وإصلاحات هيكلية تهدف الى تخفيض كلفة ممارسة الأعمال للقطاع الخاص لتحقيق الأهداف المرجوة سالفة الذكر.