خيارات البنك المركزي الأردني بعد رفع أسعار الفائدة الأمريكية

تنويه: وددت في هذا المقال أن أوضح أثر قرار البنك المركزي الأمريكي الأخير القاضي برفع أسعار الفائدة على الإقتصاد الأردني وبالأخص على تبعيات هذا القرار على البنك المركزي الأردني. لذلك فإن هذه المقالة ستطول بعض الشيء لإحتواءها على العديد من التوضيحات والشرح لحيثيات السياسة النقدية في الأدبيات الإقتصادية بالإضافة الى توفير معلومات أساسية حول البنوك المركزية وطرق عملها. لتسهيل قراءة هذا المقال، قمت بتقسيمه الى الأجزاء التالية:

1. أسباب قرار البنك المركزي الأمريكي برفع أسعار الفائدة وخلفية حول آلية عمله

2. آثار تغيير أسعار الفائدة على سوق العملات

3. السياسة النقدية للبنك المركزي الأردني ودورها في تثبيت سعر صرف الدينار

4. أثر قرار البنك المركزي الأمريكي على جاذبية الدينار الأردني

5. خيارات البنك المركزي الأردني بعد قرار الرفع

الجزء الأول: أسباب قرار البنك المركزي الأمريكي برفع أسعار الفائدة وخلفية حول آلية عمله

كما توقع العديد من المراقبون، وبعد تصريحات عديدة من رئيس مجلس الإحتياطي الإتحادي (الذي يعتبر بمثابة البنك المركزي الأمريكي) "جانيت يلن" على مضى الأشهر الماضية، أتخذت لجنة سوق المالية المفتوح للمجلس الإحتياطي الإتحادي ، قراراً برفع أسعار الفائدة الرئيسية على الأموال الإتحادية (Federal Funds Rate) وهو سعر الفائدة الذي تتقاضاه البنوك عند إقراضها بنوك أخرى لفترة إستحقاق ليلة واحدة.

إن هذه الفائدة تعتبر مركزية من حيث إستناد مختلف أسعار الفائدة لقروض مختلفة (مثل قروض السيارات أو الرهانات العقارية) عليها حيث إن إرتفاع سعر هذه الفائدة أو إنخفاضها يتماثل مع إرتفاع أو إنخفاض في أسعار الفائدة على مختلف القروض.

تتمثل أهمية أسعار الفائدة هذه بأنها تحدد جاذبية القروض من قبل المقترضين وبالتالي تتحكم في منسوب الطلب عليها. ولذلك فإن التحكم في سعر هذه الفائدة يعتبر من الأدوات الرئيسية للسياسة النقدية للبنك المركزي الأمريكي حيث أنه يمكن له أن يتبنى سياسة توسعية عن طريق تخفيض أسعار الفائدة وبالتالي زيادة الإقراض والذي يؤدي الى زيادة الطلب الكلي الذي بدوره يوؤدي الى رفع الأسعار، زيادة الإنتاج، ويقلل من نسبة البطالة. أما السياسة الإنكماشية فتتمثل في رفع سعر هذه الفائدة لتقليل الطلب على القروض وبالتالي "ضبط" النمو في الطلب الكلي إن كان معدل التضخم عالياً وإن كانت الأسعار ترتفع بمعدل يعتبر فوق المقبول.

إن قيمة الرفع هذه هامشية حيث أن المجلس رفع هذه النسبة من مدى 0-0.25% الى مدى 0.25-0.5%. لكن بعد حوالي 8 سنوات من أسعار فائدة تقرب الصفر، رفع سعر الفائدة يدل على ثقة البنك المركزي الأمريكي في قوة أكبر إقتصاد في العالم وثقته بأنه لا يحتاج الى أسعار فائدة متدنية للحفاظ على أداءه القوي حيث إنخفضت نسبة البطالة في أمريكا الى 5% وهي تعتبر منخفضة قياساً الى معدلاتها التاريخية.

إن هذا القرار جابه الكثير من الجدل والنقاش في أوسط الإقتصاديين في مجمل دول العالم حيث أن قراراً مثل هذه له تبعيات على معظم إقتصاديات العالم ولا ينحصر أثره فقط على الإقتصاد الأمريكي. إن النقاش يتلخص في جانبين، لكن قبل الخوض بتفاصيلهما يجب أن ننوه أن البنك المركزي الأمريكي يعمل تحت ولاية مزدوجة (أو هدفين رئيسيين) وهي:

1. تحقيق ثبات في الأسعار (Price Stability) عن طريق ضمان تحقيق معدل تضخم "مناسب" يحافظ على نمو صحي للاقتصاد الأمريكي وتبلغ حوالي 2% بإجماع معظم الإقتصاديين.

قد يبدو للبعض أن أن التضخم شيء سلبي تماماً لكن سأخصص مقالة في المستقبل القريب لشرح أهمية تحقيق أي إقتصاد لمعدل تضخم مناسب ومقبول للحفاظ على النمو الإقتصادي حيث أن إنخفاض الأسعار بشكل مستمر (Deflation) ليس إيجابياً للإقتصاد.

2. تحقيق توظيف كامل في الإقتصاد (Full employment) أي تحقيق معدل بطالة في مدى 5.5% وهي النسبة التي يجمع عليها الإقتصاديون بأنها المعدل الطبيعي للبطالة.

وضعت في نهاية هذا الجزء توضيحاً خاصاً يسهب في شرح حيثيات الهدف الثاني وشرح لماذا تحقيق "التوظيف الكامل" يتماثل مع تحقيق نسبة بطالة معينة.

عند النظر الى واقع سوق العمل والأسعار في الإقتصاد الأمريكي، نجد أن البطالة تبلغ 5% والتي هي أقل من المعدل الطبيعي للبطالة في الإقتصاد الأمريكي (إن هذا المعدل يختلف من دولة الى أخرى). لكن معدل التضخم أبى أن يرتفع الى مستوى 2% على مدى السنين الماضية بما يدل على أنه هناك أثار إنكماشية ما زالت تخيم على الإقتصاد الأمريكي. يجدر بالذكر إن معدل التضخم المركزي (Core Inflation)، وهو معدل التضخم الذي يخصم منه أثار أسعار الوقود والطعام من المعدل العام (بسبب تذبذبهما العالي)، ما زال يحوم حول معدل 1% وهو أقل من هدف 2% المعلن للبنك المركزي الأمريكي.

إن إتخاذ البنك المركزي الأمريكي لهذا القرار يعزى الى سبب رئيسي وهو قوة سوق العمل الأمريكي بدلالة إنخفاض معدل البطالة الى حدودٍ دنيا تماثل مستوياتها ما قبل الأزمة المالية في عام 2008. على الرغم من عدم وصول معدل التضخم الى المستوى المقبول بـ 2% الى إن تصريح البنك المركزي الأمريكي يدل على أن إنخفاض معدل البطالة من شأنه أن يرفع من الأجور والذي سيزيد من قيمة التضخم لتصل الى 2%.

هذا العلاقة حتمية لأن قلة العمالة المتوافرة في السوق (أو إنخفاض معدل البطالة) ستزيد من جاذبية العمال الحاليين (أي قلة العرض)، ومع قلة العرض للعمالة (مثلها مثل أي سلعة أخرى) ستزيد الأجور بسبب إزدياد قوة المساومة لدى العمال عن طريق طلب أجر أعلى والحصول عليه. يؤدي إزدياد الأجور على مستوى الإقتصاد الكلي الى رفع الطلب الإجمالي على مجمل السلع والخدمات نتيجة لإزدياد القوة الشرائية للشخص العادي. إن هذه الظاهرة ستأثر تصاعدياً على الأسعار (نتيجة لإزدياد الطلب) ونتيجة لذلك سترفع قيمة التضخم والذي يهدف البنك المركزي الأمريكي على ضمان ثباته في معدل 2% سنوياً.

توضيح حول هدف التوظيف الكامل: تجمع مختلف الأدبيات الإقتصادية أنه لا يمكن لأي إقتصاد منظم تحت مبادئ السوق المفتوح أن يحقيق التوظيف الكامل أو معدل بطالة 0%. إن السبب الرئيسي لذلك بأنه في كافة الأحوال سيكون في أي إقتصاد أشخاص قادرين العمل ويبحثون عنه لكن ليس منخرطين في سوق العمل. تعزى هذه الحتمية الى أن بعض الأشخاص العاطلين عن العمل يحتاجوا الى وقت للبحث عن وظيفة وإستكمال متطلبات الحصول على الوظيفة (على سبيل المثال المقابلة الشخصية). في حين يوجد أشخاص لهم مهارات لا يحتاجها الإقتصاد ويحتاجون الى وقت للحصول على مهارات جديدة متطلبة في سوق العمل. لذلك يعتبر الإقتصاديون أن تحقيق التوظيف الكامل يتمثل في تحقيق معدل بطالة يساوي معدل البطالة الطبيعي (Natural Rate of Unemployment) والذي يعبر عن نسبة الأشخاص في سوق العمل الذين تنطبق عليهم الصفات أعلاه.

الجزء الثاني: آثار تغيير أسعار الفائدة على سوق العملات

إن تغيير أسعار الفائدة من قبل البنك المركزي في أي إقتصاد له أثر مباشر على قيمة العملة لذلك الإقتصاد. ولذلك فإن قرار البنك المركزي الأمريكي برفع أسعار الفائدة له تبعيات على قيمة الدولار الأمريكي.

إن إرتباط أسعار الفائدة الرئيسية بقيمة الدولار الأمريكي يتمثل في دور أسعار الفائدة في تحديد كمية "الطلب الأجنبي" (Foreign Demand) على الدولار الأمريكي كأداة إدخار بالإضافة الى أثره على الإستثمار الأجنبي (أي الإستثمار المتأتي من شخوص لا يتداولون بشكل رئيسي بالدولار الأمريكي). إن هذا الإرتباط يمكن تفسيره عن طريق النظر الى الإتجاهين المختلفين لأسعار الفائدة صعوداً ونزولاً:

· إن أرتفعت أسعار الفائدة في الولايات المتحدة فهذا معناه أن أسعار الفائدة ترتفع بحوالي نفس المقدار على مختلف القروض وأيضاً على مختلف الأدوات الإدخارية حيث أن رفع أسعار الفائدة يرفع من تكلفة القروض (أسعار الفائدة على القروض) لكن أيضاً له أثر تصاعدي على أسعار الفائدة على الودائع بمختلف أنواعها وبشكل رئيسي أسعار الفائدة لسندات الخزينة الأمريكية التي تعتبر من أكثر السندات شيوعاً وتداولاً وأماناً وأكثرها طلباً. لذلك فإن رفع أسعار الفائدة يرفع من الطلب الأجنبي على الدولار حيث يلجاً المستثمرون الى وضع أموالهم في أدوات إدخارية بالدولار. إن إرتفاع هذا الطلب على الدولار من شأنه أن يرفع من قيمة الدولار نسبة للعملات الأخرى بمعنى أن سعر صرف الدولار سيرتفع.

· إن إنخفضت أسعار الفائدة فهذا معناه أن أسعار الفائدة على القروض والأدوات الإدخارية المختلفة ستنخفض. لذلك فإن المستثمرين الأجانب الذين يمتلكون أدوات إدخارية بالدولار سيلجؤون الى بيعها ووضع أموالهم في أدوات إدخارية في عملات أخرى. إن هذا الأثر يتمثل في إزدياد العرض على الدولار مقابل إزداد الطلب على العملات الأجنبية. إن هذا يؤدي الى إنخفاض سعر صرف الدولار مقابل العملات الأجنبية.

إن الشرح أعلاه لا يشرح كامل المحددات التي تحدد قيمة سعر صرف عملةٍ ما (على إفتراض أن تلك العملة معومة وليست محددة بسعر صرف معين). إن قيمة العملة تحدد من عوامل رئيسية أخرى مثل الطلب على السلع والخدمات المختلفة للدولة بالإضافة الى الإستقرار الأمني والسياسة للدولة ذاتها. بالإضافة الى العوامل سالفة الذكر، إن قيمة العملة تتحدد أيضاً بثقة الشخوص المختلفة في العملة بشكل خاص والإقتصاد التابع لها بشكل عام. إن كانت ثقة المستثمرين على سبيل المثال في عملة معينة عالية، فذلك يؤدي الى إرتفاع الطلب عليها (على إفتراض ثبات العوامل الأخرى). أما إن قلت ثقة المستثمرين في عملة معينة وبدأوا بالإعتقاد بأنها ستنخفض قيمتها، فيؤدي ذلك الى إزيداد العرض لتلك العملة نتيجة لبيع المستثمرين لتلك العملة وشراءهم لغيرها.

الجزء الثالث: السياسة النقدية للبنك المركزي الأردني ودورها في تثبيت سعر صرف الدينار

تعتبر أسعار الفائدة على نافذة الإيداع لدى البنك المركزي الأردني من الأدوات الرئيسية للسياسة النقدية للبنك بالإضافة على أسعار الفائدة على إتفاقيات إعادة الخصم أو أسعار الفائدة على إتفاقيات إعادة الشراء. بغض النظر عن حيثيات هذه الأدوات المختلفة، تشترك جميعها بثلاث خصائص رئيسية:

1. إن الفوائد على هذه الأدوات تعطى للبنوك العاملة (أجنبية أو محلية) في الأردن عند تداولها مع البنك المركزي الأردني في هذه الأدوات.

2. إن أسعار الفوائد على هذه الأدوات تحافظ على هامش معين (بمقدار يتراوح ما بين 2-3%) على نظيرتها في الأدوات المماثلة المستخدمة في البنك المركزي الأمريكي في تداولاته مع البنوك العاملة في الولايات المتحدة الأمريكية. على سبيل المثال يبلغ سعر الفائدة على أداء نافذة الإيداع في البنك المركزي الأمريكي لليلة واحدة 0.1% في حين تبلغ نظيرتها في البنك المركزي الأردني 1.5%.

3. تستند أسعار الفائدة في مختلف الأدوات الإدخارية والقروض في البنوك العاملة على هذه الفوائد (أي إن أرتفعت أسعار الفائدة في البنك المركزي، ترتفع أسعار الفائدة على القروض والأدوات الإدخارية).

لقد أسهبنا في الجزء الأول والثاني من هذه المقالة عن آثار التغيير في أسعار الفائدة في البنوك المركزية على الاقتصاد وعلى سعر العملة. لذلك فإن هذا الجزء سيوضح دور أسعار الفائدة التابعة للبنك المركزي الأردني في ثبات سعر صرف الدينار مقابل الدولار. كما ذكرنا في الجزء الثاني، لدى أسعار الفائدة دور في تحديد قيمة العملة أو سعر صرفها مقابل عملات أخرى. لكن الإفتراض الأساسي في ذلك الجزء أن العملة معومة أي أن سعر صرفها يتحدد عن طريق قوى العرض والطلب وليست مثبتة.

كما يعلم الجميع، فإن سعر الصرف للدينار الأردني مقابل الدولار الأمريكي مثبت على سعر تداول حول 71 قرش للدولار منذ عقدين. لكن تحديد سعر الصرف هذا لا يتم عن طريق "قرار رسمي" بتحديد سعر الصرف (على غرار تحديد الحكومة لأسعار المشتقات النفطية) لكن يتم تحديد سعر الصرف هذا عن طريق إستخدام البنك المركزي الأردني لأدواته المختلفة (أي سياسته النقدية) في سبيل التحكم في مستويات الطلب والعرض على الدينار من أجل تحقيق سعر الصرف المحدد.

كما ذكرنا سابقاً، إن أسعار الفائدة في الأدوات المختلفة التابعة للبنك المركزي الأردني ترتفع عن قيمة أسعار الفائدة لدى نظيرتها في البنك المركزي الأمريكي بهامش معين يختلف لكل أداة. إن هذا الهامش له دور كبير في تحديد كمية الطلب على الدينار الأردني عن طريق خلق فرصة دائمة للمراجحة (Arbitrage Opportunity) في سوق التداول ما بين الدينار الأردني والدولار الأمريكي في ظل ثبات سعر صرف الدينار وثقة أصحاب الأموال فيه.

إن هذه الفرصة يمكن شرحها عن طريق المثال التالي: من الممكن لمستثمر ما أن يقترض بالدولار الأمريكي بإستحقاق فترة معينة وأن يودع تلك الأموال في بنك عامل في الأردن بالدينار الأردني لفترة الإستحقاق ذاتها. وعند وقت إستحقاق القرض يمكن للمستثمر أن يجني ربحاً من سداد قيمة الفائدة على القرض بالدولار الأمريكي من قيمة الفائدة المجنية على إيداع المبلغ بالدينار الأردني والتي تكون أعلى من قيمة الفائدة على القرض. إن إختلاف أسعار هاتين الفائدتين يتأتى من الهامش سالف الذكر بين أسعار الفائدة في أدوات البنك المركزي الأردني ونظائره في البنك المركزي الأردني.

لذلك فإن وجود هامش معين ما بين أسعار الفائدة يخلق فرص مراجحة لأصحاب الأموال الذين لهم القدرة على الوصول الى الأسواق الإئتمانية العالمية. إن هذه الفرصة تجذب العديد من الأموال الأجنبية الى الإقتصاد الأردني وبالتالي تزيد من جاذبية الدينار نتيجة لفرصة المراجحة هذه أولاً وإرتفاع أسعار الفائدة على الأدوات الإدخارية بالدينار الأردني ثانياً.

إن هذين الأثرين يخلقاً طلباً إصطناعي على الدينار الأردني (إصطناعي بمعنى أن هذا الطلب ليس متأتياً من الطلب على الصادرات الأردنية والذي يعتبر المحرك الأساسي للطلب على أي عملة). إن هذا الهامش يؤثر في مستوى الطلب على الدينار الأردني، وكما نعرف فإن العرض على الدينار الأردني يخضع تحت سيطرة البنك المركزي الأردني بموجب القانون الناظم له. لذلك فبمقدور البنك المركزي الأردني أن يحدد سعر صرف الدينار مقابل الدولار عن طريق التحكم في الطلب (عن طريق تغيير قيمة الهامش في أسعار الفائدة في الأردني عن نظيرتها في أمريكا) والتحكم في عرض النقد (عن طريق إصدار أو شراء سندات الخزينة).

إن التحكم في سعر الصرف دينار ممكن، عن طريق الآلية سالفة الذكر، ما دام يحوي البنك المركزي الأردني على مستوى مريح من الإحتياطات الأجنبية (التي وصلت الى حدود 14 مليار دينار مؤخراً). يتيح وجود هذا المستوى المريح من الإحتياطات الأجنبية للبنك المركزي الأردني أن يمارس عمليات بيع وشراء بالعملات (سواءً الأردنية أو الأجنبية) للتحكم أيضاً في مستويات العرض والطلب على الدينار وبالتالي تحديد سعر صرفه مقابل الدولار.

يجدر بالذكر أن هذه الأدوات ترتكز على وجود ثقة كافية لدى المستثمرين وأصحاب الأموال بالدينار الأردني حيث إنعدام تلك الثقة يقلل من جاذبية الدينار ويقلل بالتالي الطلب على الدينار الأردني. حتى وجود هامش كبير في أسعار الفائدة في عام 2012 لم يسعف البنك المركزي الأردني على مواكبة البيع المتزايد على الدينار الأردني نتيجة لإنعدام الثقة في الدينار وقتها (والذي تأتى من خوف أصحاب الأموال على قيمة العملة نتيجة للإزدياد المطرد في عجز الموازنة نتيجة لإنقطاع الغاز المصري آنذاك وشكوك المستثمرين حول قدرة الحكومة الأردني على خدمة الدين العام).

تسبب البيع المطرد للدينار في ذلك العام الى إنخفاض قيمة الإحتياطات الأجنبية بمقدار النصف ووضع ضغطاً سلبياً على الإقتصاد الأردني بمجمله نتيجة للخوف المتزايد من إنهيار قيمة سعر صرف الدينار. لكن لحسن الحظ، قامت الحكومة الأردنية بتوقيع إتفاقية مع صندوق النقد الدولي ساهمت في إرجاع الثقة الى مستوياتها السابقة والدليل على ذلك إرتفاع قيمة إحتياطات البنك المركزي في هذا العام الى مستويات غير مسبوقة.

الجزء الرابع: أثر قرار البنك المركزي الأمريكي على جاذبية الدينار الأردني

قبل أن أدخل في أثر قرار البنك المركزي الأمريكي على جاذبية الدينار الأردني، أود أن أضع هذا الجزء في نطاق عالمي من خلال التطرق الى أثر هذا القرار على الاقتصاديات الناشئة ومن ثم الدخول الى أثره على الدينار الأردني.

رفع أسعار الفائدة من قبل البنك المركزي الأمريكي يقرأ بأنه إقرار من قبل البنك المركزي الأمريكي على ثقته في قوة الإقتصاد الأمريكي وضمان إستمرار نموه من دون أسعار فائدة متدنية. يجدر بالذكر أن قيمة الرفع هامشية (فقط 0.25%) لكن دلالة هذا الرفع سببت جدلاً كبيراً في أوساط الإقتصاديين. حيث أن الرفع يدل على قوة الإقتصاد الأمريكي. إن هذه الدلالة تسبب في إرتفاع ثقة المستثمرين في الإقتصاد الأمريكي وفرص نموه على مدى الطويل وتعمل بمثابة دعوة لهم لإرجاع أموالهم الى الإقتصاد الأمريكي التي كانت راسية في إقتصاديات ناشئة في إستثمارات وأدوات إدخارية تجني لهم أرباحاً أكبر من قرينتها في أمريكا (التي كانت ضئيلة نتيجةً لتدني أسعار الفائدة).

لذلك فإن رفع أسعار الفائدة في أمريكا تسبب في صداعٍ للبنوك المركزية في الاقتصاديات الناشئة حيث أن العديد من الأموال سحبت من تلك الاقتصاديات وذهبت الى الولايات المتحدة (Capital Flight). وللمحافظة على تلك الأموال لجئت (أو ستلجأ) بعض تلك البنوك الى رفع أسعار الفائدة في إقتصادياتها. لكن هذه الاقتصاديات (مثل البرازيل) تعاني من انكماش اقتصادي وتحتاج الى سياسة نقدية توسعية وليست انكماشية. لذلك فإن البنوك المركزية هذه تفاضل الآن ما بين الأثر السلبي لرفع أسعار الفائدة في إقتصاد يعاني من تباطؤ في النمو وما بين الأثر السلبي لفرار العديد من الأموال من إقتصادياتها بإتجاه الإقتصاد الأمريكي.

إن الأردن ليس بغنى عن هذا الصداع، لكن يوجد بعد إضافي لهذا الرفع يميزه عن الصداع في الاقتصاديات الناشئة ألا وهو سعر صرف الدينار المثبّت.

كما ذكرنا في الجزء الثالث، فإن الحفاظ على سعر صرف الدينار يتحدد من إستخدام أدوات مختلفة من البنك المركزي الأردني واحدةً منها هي خلق هامش معين ما بين أسعار الفائدة في الأردن والولايات المتحدة الأمريكية.

إن الأثر المباشر لقرار البنك المركزي الأمريكي برفع أسعار الفائدة هي تقليل قيمة الهامش ما بين أسعار الفائدة في البنك المركزي الأردني والأمريكي بمقدار 0.25% (أي قيمة الرفع في القرار). لذلك فإن تقليل قيمة الهامش من شأنه أن يخفض من قيمة فرصة المراجحة وبالتالي تخفض من قيمة الطلب على الدينار. لكن الأثر غير المباشر لهذا القرار يتمثل في إزدياد ثقة المستثمرين وأصحاب الأموال في الاقتصاد الأمريكي ويقابله ثبات في ثقة المستثمرين في الاقتصاد الأردني.

إن هذا القرار من شأنه أن يخلق عمليات غير إعتيادية تتجلى في بيع بعض المستثمرين وأصحاب الأموال لدنانيرهم مقابل شراء الدولار الأمريكي. إن هذه العمليات ستزيد من عرض الدينار في السوق ويخلق ضغطاً تنازلياً على سعر صرف الدينار. يمكن للبنك المركزي إحتواء هذا الأثر مؤقتاً عن طريق شراء هذه الدنانير باستخدام الاحتياطات الأجنبية لديه والحفاظ على سعر الصرف دون المساس بأسعار الفائدة.

لكن هذا الحل مؤقت ولا يمكن الاعتماد عليه. كما ذكر البنك المركزي الأمريكي في بيانه الذي أعلن من خلاله عن قرار الرفع، إن البنك المركزي الأمريكي يتوقع أن يرفع أسعار الفائدة بشكل تدريجي للوصول الى مستوى 2.5% في نهاية العام 2017. على افتراض أن قيم الرفع تساوي 0.25%، هذا معناه أن البنك المركزي الأمريكي سيرفع من أسعار الفائدة بمقدار 0.25% على ثمان مراحل في السنتين القادمتين. لذلك فإن البنك المركزي الأردني سيواجه نقاشات محتدمة في الفترة القادمة عن السبيل الأمثل لمواكبة مثل هذه التطورات في الاقتصاد الأمريكي والحفاظ على سعر صرف الدينار.

الجزء الخامس: خيارات البنك المركزي الأردني بعد قرار الرفع

إن الخيار الأوضح للبنك المركزي الأردني هو أن يقلد البنك المركزي الأمريكي في رفع أسعار الفائدة. أي كلما رفع البنك المركزي الأمريكي سعر الفائدة، يقوم البنك المركزي الأردني برفع سعر الفائدة أيضاً. لكن تبعيات هذا القرار على الاقتصاد الأردني قد لا تكون في صالح النمو الاقتصادي. بالعودة الى الجزء الأول نستذكر أن رفع أسعار الفائدة يعتبر سياسة إنكماشية وتهدف الى ضبط الطلب في أوقات النمو الاقتصادي المطرد. لكن الاقتصاد الأردني يعاني من تباطؤ في النمو الاقتصادي (معدل 2.5% في السنين الماضية) وإرتفاع البطالة الى مستوى 13% في 2015. لذلك إن قام البنك المركزي الأردني برفع أسعار الفائدة، سيكسب من خلاله ثبات سعر صرف الدينار والحفاظ على مستويات مريحة من الاحتياطات الأجنبية لكن ذلك سيأتي على حساب إطالة حالة التباطؤ الاقتصادي التي يعيشها الأردن الآن وإنخفاض في السيولة النقدية المحركة للأنشطة الإقتصادية.

من الممكن للبنك المركزي أن يحافظ على أسعار الفائدة كما هي في ظل إرتفاع أسعار الفائدة في أمريكا على المدى المتوسط. إن الحفاظ على أسعار الفائدة كما هي من شأنها أن تعزز من النمو الاقتصادي في ظل السياسة المالية الإنكماشية المتبعة الآن. لكن الحفاظ على أسعار الفائدة سيقلل من من جاذبية الدينار نسبة الى الدولار الأمريكي والذي من شأنه أن يزيد الطلب على الدولار في السوق الأردني وزيادة العرض على الدينار الأردني. هذا الخيار سيضع إحتياطات البنك المركزي من العملات الأجنبية تحت ضغط تنازلي نتيجة لإزدياد الطلب على الدولار بالأخص والعملات الأجنبية وإضطرار البنك المركزي الأردني لتلبية عمليات الشراء تلك.

لذلك إن أختار البنك المركزي الأردني الحفاظ على أسعار الفائدة كما هي، يتوجب عليه إستخدام إحتياطاته الأجنبية على المدى المتوسط لشراء ما يعرض من الدينار بغاية الحفاظ على سعر الصرف. يجدر بالذكر أن قيمة الإحتياطات ليست لا متناهية،أي أن بوسع البنك المركزي الأردني أن يمارس هذا الخيار لفترة محدودة فقط. من الممكن إطالة تلك الفترة إن زادت ثقة المستثمرين وأصحاب الأموال في الدينار الأردني حيث أن هذه الثقة الزائدة ممكن أن تعادل الأثر السلبي لإنخفاض قيمة فرصة المراجعة نتيجة لإنخفاض الهامش في أسعار الفائدة ما بين البلدين.

من الممكن للبنك المركزي أن يقوم بخفض أسعار الفائدة عكس كافة التوقعات. لكن كما ذكرنا فإن الحفاظ على سعر صرف الدينار وتقليل الهامش في أسعار الفائدة لا يمكن أن يتزامنا في ظل ضعف الطلب على الدينار الأردني الذي يتأتى بشكل رئيسي من الطلب على الصادرات الأردني وعلى تحويلات المغتربين الى الأردن. لذلك، وللأسف، يمكن للبنك المركزي الأردني أن يضطر الى رفع أسعار الفائدة بالتزامن مع رفع أسعار الفائدة من قبل البنك المركزي الأمريكي للحفاظ على سعر صرف الدينار وتفادي تعرض البنك المركزي لضغوط غير إعتيادية تنازلية على إحتياطاته الأجنبية. إن هذا الخيار، وهو الأقرب الى الواقع على المدى المتوسط، سيضع الإقتصاد الأردني تحت الضغط بسبب إنخفاض السيولة، إنخفاض الإقتراض، وزيادة الإدخار وبالتالي خفض الطلب الكلي. رفع أسعار الفائدة تعتبر سياسة إنكماشية لا تتناسب مع الواقع الحالي للإقتصاد الأردني في ظل السياسة المالية الإنكماشية.

في الخلاصة، إن هذا النقاش محتدم في الأوساط الاقتصادية العالمية وبلا شك يتناول الحديث عنه في أروقة البنك المركزي الأردني. إن الخيارات سالفة الذكر لها إيجابياتها وسلبياتها ولا يمكن لأي خيار أن يسمو كالخيار المثالي. في الأشهر القادمة يجب علينا النظر بتمعن الى مستويات الإحتياطات الأجنبية حيث مستوياتها ستعطينا دلائل على خطوات البنك المركزي الأردني القادمة.